الرجل الذي أتى النبي مسلماً ورفض النبي مرافقته !!
كعادته التاريخ الإسلامي نهرٌ لا ينضب من روائع القصص، ولكل قصة رجالها وأحداثها ورونقها الخاص، ولا بأس بالقول أن كل حادثةٍ في هذا التاريخ المشرف شكلت ملحمةً قصصية فريدة، لا مجال فيها لحصر روائعها وقيمها ودروسها، وهو ما تضافرت في سبيل جمعه ونقله وتدقيقه مجهوداتٌ هائلة من علماء ومؤرخي الأمة الأخيار بداية من القرون الأولى وصولاً إلى يومنا هذا، وإذ تظن أنك قد أحطت بجانبٍ كبير من قصة ما؛ تجد التفاصيل الصغيرة والهوامش الجانبية منها تشكل قصةً جديدة في حد ذاتها! فإذا ذُكرت غزوة الخندق على سبيل المثال، لا تدري أتُعجب من موقف النبي ﷺ إذ يستشير سلمان الفارسي، أم يصيب عقلك الذهول من معجزات النبي أثناء الحفر، أم تقف إجلالاً أمام صلابة دفاع المسلمين عن دين الله رغم تحالف الأحزاب، أم تشعر بنشوة الانتصار بعد أن أرسل الله ريحًا وجنودًا لم يروها؟ وكلما تمعنت في الحادثة أكثر كلما تجلت أمامك ملامح قصة فريدة بين ثناياها، وبناءً على ما سبق دعونا نتعرف على ذلك الرجل الأشم، الذي أراد أن يُسلم وجهه إلى الله ولكن شاءت الظروف حينها أن تصده عن غايته السامية، وبأمر من رسول الله ﷺ!
أما الرجل فهو الصحابي الجليل أبو جندل بن سهيل بن عمرو -رضي الله عنه- وأما الحادثة الأم فهي صلح الحديبية، ولا بد لنا من الحديث قليلاً عن صلح الحديبية حتى تكتمل زوايا المشهد، إذ وقع هذا الاتفاق بين المسلمين في المدينة من جهة وبين كفار قريش في مكة على الجهة المقابلة حين أراد الصحابة تأدية العمرة شوقًا إلى بيت الله الحرام، وعندما علمت قريش بذلك تجهزت لصد المسلمين عن غايتهم، ومن ثم تم عقد صلحٍ بين الطرفين دون اقتتال، وكانت شروطه هي تأدية المسلمين للعمرة بدءًا من العام المقبل، وألا مانع لأي قبيلة عربية من الانضمام للحلف الذي تريد، وأن تُعقد هدنةٌ بين الطرفين لمدة 10 سنوات، أما الشرط المجحف في هذا الاتفاق هو عدم قبول أي قُرشي يأتي النبي ﷺ مسلمًا، بينما تقبل قريش من يرتد من المسلمين! وقد انهار هذا الصلح بعد عامين فقط بعد أن نقضته قريش، ليعيش المسلمون على إثر ذلك أحداث أعظم فتحٍ في تاريخ الإنسانية، فتح مكة.
أما بطل قصتنا أبو جندل فقد كان له موقفٌ عجيب في خضم هذه الأحداث المتسارعة، فقد أسلم قديمًا في مكة قبل صلح الحديبية، فحبسه والده ومنعه من الهجرة، وقد كان والده مُوفد قريش في هذا الصلح، وأثناء توقيع الاتفاق بين المسلمين وكفار قريش جاء إلى النبي ﷺ كي يلتحق به، ومع أن الاتفاق لم يُوقع بعد إلا أن والده سهيل بن عمرو رفض ذلك وضربه، وأخبر النبي أن الاتفاق بينهما قد تم ولا يحق له أن يقبل أبا جندل وإلا لن يكتمل الصلح، وبعد سجالٍ وجدال تنازل النبي ﷺ وقال لأبي جندل : «أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، وإنا صالحنا القوم وإنا لا نغدر» فامتثل أبو جندل لأمر رسول الله، وعاد إلى قريش ينتظر فرج الله.
أما الموقف الأغرب في قصة أبي جندل هو أنه بعد مدة من توقيع الصلح قد ضاقت به نفسه، فخرج مع أبي نصير برفقة 70 نفرٍ من مسلمي قريش، ثم انضم إليهم عددٌ من مقاتلي القبائل العربية المجاورة فأصبحوا 300 مقاتل، وبكل حكمة رفضوا أن يذهبوا إلى النبي ﷺ في مدة الهدنة كي لا يردهم إلى أهلهم أو خشية أن يتورط النبي بهم في ظل هذا الاتفاق؛ فاختاروا أن يهبطوا بمكانٍ ليس ببعيدٍ من قريش على طريق القوافل التجارية، وقد كانوا يغيرون على القوافل مرارًا وتكرارًا حتى تأذت قريش منهم، ثم قامت قريش بمناشدة النبي أن يقبلهم مسلمين وأن يتجاوز ذلك الشرط المجحف، فأرسل النبي إلى أبي جندل وأبي نصير كي يقدما إليه ويلتحقا به رفقة من معهم، وهكذا تحققت غاية أبي جندل رغمًا عن أنف قريش، ودون حاجةٍ لتوريط النبي ﷺ بنقض الاتفاق.
وفي حين أن هذه القصة كانت علامة فارقة على هامش صلح الحديبية فإنه لم يَرد الكثير عن سيرة الصحابي أبي جندل، وإن لم يكن في سيرته غير هذه الواقعة المميزة لكفته بأن تكون شاهدًا على إخلاصه وجُرأته وغيرته على الإسلام.
رضي الله عنه وأرضاه.
رضي الله عنه وأرضاه.
مصعب عماد المبيض
رابط المقال الأصلي على SasaPost :
تعليقات
إرسال تعليق
أسعدني مرورك ..