وأما بنعمة ربك فحدث.. ولكن ؟!

في عالم افتراضي اختلط فيه الحابل بالنابل وتاهت فيه القيم والفضائل، أصبح من خلاله الوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص مرهوناً بضغطة زر واحدة، اختفى الناس بشكل مخيف خلف شاشات هواتفهم، وحُجب عن الأنظار انطباعاتهم ومزاجاتهم والأهم من كل هذا مشاعرهم وظروفهم، تلك المشاعر التي يتم دهسها قصداً أو بغير قصدٍ بشكل شبه يومي تحت شعار "وأما بنعمة ربك فحدث"! أتحدث هنا عن عدد كبير من رواد مواقع التواصل الإجتماعي ممن يفيضون علينا بمنشوراتهم التي يتبجحون من خلالها بما رزقهم الله من نِعم دون مراعاة لما يتركه ذلك في نفوس من يتلقاها ممن لم يوسع الله عليه بحجة أن نعم الله يجب التحدث بها، وكأن صاحب هذه الحجة الجاهزة يستدل بكلام الله كدليل رادع في مواجهة من يأتيه بنقدٍ أو نصيحةٍ أو تنويه، وإن كان ظاهر الآية الكريمة يشير بشكل واضحٍ إلى الحديث عن نعم الله والتشهير بها؛ إلا أن الحقيقة الأسمى تكمن فيما تخبئه من معانٍ في جوفها، فما هي الحقيقة؟

على رأي العالم ابن باز - رحمه الله - في تفسير هذه الآية إذ يقول نصاً : الآية على ظاهرها أن الله أمر نبيه ﷺ أن يتحدث بنعم الله جل وعلا وهذا من الشكر؛ لأن التحدث بالنعم من شكر الله؛ فالنعمة شكرها يكون بأمورٍ ثلاثة: الاعتراف بها باطنًا وأنها من الله ومن فضله، والتحدث بها ظاهرًا بلسانه وشكر الله عليها قولاً وعملاً، والأمر الثالث صرفها في مرضاة المنعم بها، والاستعانة بها على طاعة الله جل وعلا، فلابد من الأمور الثلاثة معاً.

وعلى ذمة موقع "الإسلام سؤال وجواب" فقد ذهب بعض العلماء إلى أن المقصود من الحديث بالنعمة : هو القيام بشكرها وإظهار آثارها، فإذا أنعم الله عليه بالمال شكر الله تعالى على هذه النعمة، وأكثر من التصدق والكرم والجود، حتى يقصده الفقراء والمحتاجون، كان هذا هو المقصود بالحديث بالنعم؛ وليس المراد تعديد ثروته، وإخبار الناس بما عنده؛ فإن هذا لم يفعله رسول الله ﷺ وهذا من الفخفخة التي يتنزه عنها نبي الله.

ومثال ذلك من يقوم بتصوير ما لذ وطاب من الطعام بشكل دوري أو يوثق زيارته إلى أحد المطاعم الفارهة بالصور والفيديو وينشر كل ذلك على حسابه الشخصي، ألا يعلم أن هناك فقراء أو محرومون من مثل هذه النعم يشتهونها صباح مساء ولا حيلة لهم بها ويموتون حسرة إذ يشاهدونها؟ سيخرج من يقول بكل ثقة أن الفقير كيف له أن يصل إلى الإنترنت ما دام فقيراً! وهذا الكلام مردودٌ على صاحبه بعد أن أصبح الإنترنت موجوداً في كل مكان وبأبخس الأثمان، أضف إلى ذلك أن بعض موائد الطعام التي نشاهدها على مواقع التواصل الاجتماعي يجاوز ثمنها سعر الهاتف الذي تقتنيه أضعافاً مضاعفةً!

من يتغزل بزوجته بشكل علني على منصات التواصل الاجتماعي بشكل يجاوز حدود الأدب في بعض الأحيان ويقحم الآخرين في ما يُعد واحداً من خصوصياته بإرادته ويجعل منه فرجة للجميع، وتلك التي تنشر صور زوجها مرفقة بأبيات من الغزل كلما سنحت لها فرصة الدخول إلى حسابها، ألا يعلم هؤلاء أن هناك عدد كبير ممن تقع عيناه على هذه المنشورات محروم يشتهي الزواج وقد طال عليه الأمد أو فتاة تكاد العنوسة تسرق شبابها؟ ومعلومٌ للجميع أن هذه الفئة كبيرةٌ جداً في مجتمعاتنا، وليس المقصود هنا ألا يظهر الزوجان محبتهما؛ وإنما تقنين ذلك قدر المستطاع مراعاة لمشاعر غيرهم.

أيضاً من يتفاخر بأملاكه ومقتنيانه فيما يجاوز حدود المعقول وليس أسوأ منه ذلك الذي يتباهى بجماله وهيأته التي حباه الله دون مراعاة لنفوس وظروف الآخرين، ألا يعلم هؤلاء جميعاً أن الله قد مايز في الرزق والصفات كي نتكامل سوياً لا أن نتعالى على بعضنا البعض؟ ستجد من يقول أن هذا تشددٌ وتضييقٌ على الحريات، وهذا فهم خاطئ؛ فلا مانع أن تنشر الصور وغيرها ولكن بما يرضي الله دون أن تصل إلى درجة أن تكون مختالاً فخوراً!

ختاماً، قد يتفق البعض مع ما ذكرت ويختلف كثيرون، وهذا ليس عيباً ولكنها دعوة لمراعاة وتقدير ما يختلج في صدور الآخرين، وأن نعتدل في عرض نعم الله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فكل ذي نعمة محسود، ولعل من الطرق اللطيفة لتجنب تضايق البعض أن تقوم بعمل خصوصية للمنشور الذي تتوقع أن يصل إلى أحدهم ويترك في داخله ندوباً أو ضيقاً، فالأيام دول والحال لا يدوم، علينا جميعاً أن تجنب إيذاء مشاعر الآخرين.

مصعب عماد المبيض ✍️
الرابط الأصلي على موقع ساسة بوست من هنا


تعليقات

المشاركات الشائعة