أيّ رمضانٍ هذا ؟!



من المعلوم أن الوقت بات يمضي سريعاً دون أن نشعر به ، وبينما يوشك أن ينتصف الشهر الفضيل استوقفتُ نفسي قليلاً ، وبدأت أسترجع أحداث أول يوم فيه حيث المساجد المكتظة والأجواء الروحانية التي تغشى صلاة التراويح والتسابق على الأسطر الأولى .. حتى عادت همة العباد تفتر شيئاً فشيئاً كما العادة في كل عام ، لنعود إلى نفس خانة الأمنيات المعهودة بأن نرى زوار المسجد الجدد بعد رمضان ، وألا ينحصر لقاؤنا بهم في ذات الشهر من العام المقبل ، وهذا كله طبيعي إلى حد الآن !

غير الطبيعي هو حال الشهر الفضيل في السنوات الأخيرة حيث تغير الجوهر الروحاني الذي يحمله رمضان بين طياته ليصبح موسماً استثمارياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، شهر القرآن أصبح شهر المسلسلات ، شهر الفرج أصبح شهر الفرجة ، شهر الطاعات أصبح شهر المسابقات ، حتى بدا هذا الشهر مميزاً عن غيره من الشهور بالفعل ولكن ليس كما يرتضيه الله ورسوله ، بل بما تمليه علينا أهواءنا .

بالرجوع إلى كونه موسماً استثمارياً فقد عكف أهل الفن على حشد طاقاتهم وقدراتهم ليقدموها لنا على شكل أعمال درامية تُعرض جميعها في شهر واحد ، كأن باقي أشهر السنة غير كافية ليدسوا هذه المسلسلات الهابطة في هذا الشهر الإيماني ، ودون أن أكلفك عناء البحث عن عدد مسلسلات رمضان لهذا العام ، فقد تم تجهيز ما لا يقل عن أربعين عمل درامي ليتم عرضها في رمضان ! دون مراعاة لحرمة هذا الشهر ، ودون انتقاءٍ لمحتوى هذه الأعمال على الأقل ، لنفرض أن متوسط المدة الزمنية لكل عمل هو نصف ساعة ستجد أنها تشكل ما يقارب العشرين ساعة ! ناهيك عن برامج المسابقات والترفيه الأخرى ..

من جانب آخر ، ينشط في شهر رمضان العمل الخيري بكثافة منقطعة النظير ، يتسابق أهل الخير فيه على تقديم عطائهم لمن يحتاجه ، ولكن مع الأسف وضمن التحول الدراماتيكي لشهر الخير في السنوات الأخيرة ؛ فقد أصبح التبرع ومد يد العون عملاً إعلامياً أكثر من كونه خيرياً ، يتم فيه نشر الصور التي تهين من يتلقى المساعدة ، وتكون الصورة شرطاً للاستلام ! وكأنه حفل شعبي ! بحجة أن الجهات المانحة تطلب توثيقاً لما يتم التبرع به ، وإن كذلك فلا بأس ؛ ولكن هل طلب عوام الناس أيضاً نفس التوثيق حتى تنشر على أعين الناس هكذا ؟ ألا يكفي هؤلاء المحتاجين مُر الحياة حتى تذيقوهم مر الذل أيضاً ؟ ألا يكفي أن يطلع الله على أعمالكم وأن يوثقها ملائكته في صحيفة أعمالكم ؟

وحتى تكتمل أركان التغير الفاضح التي أصابت الشهر الفضيل فقد تناسى كثيرٌ منا صلة الأرحام عمداً ، والحجة الجاهزة هي الأوضاع الصعبة ، وإن كان من الطيب التهادي أثناء الزيارة ولكن لنحافظ على الحد الأدنى منها ، فالهدية مكملة لصلة الرحم وليست شرطاً لها ، يجب أن تنتشر فينا ثقافة الحفاظ على صلة الرحم تحت أي ظرف ، 
وللأسف فقد استوقتني مقابلة تلفزيونية كان محور الحديث فيها عن صلة الرحم خلال شهر رمضان فتسأل المذيعة إحدى الفتيات عن شعورها إن جاءها أخوها في زيارة دون أن يحضر هدية ، وقد كنت أتوقع أن تكون الإجابة الطبيعية من طالبة جامعية هي الرضا بزيارته وأن قدومه هو الأهم ؛ لأتفاجأ بردها إذ قالت : سنقول ما هذا البخل ولماذا لم يأتِ بهدية ، أين الاحترام والتقدير ؟
تأملت حينها لو أن أخاها قد شاهد هذه المقابلة فعلاً ، هل سيفكر في أن يزور أخته بعدما سمع منها هذا الرد ؟ وإن كان المثقفون رواد الجامعات يضعون الهدية عائقاً في سبيل تأدية صلة الرحم ، فماذا تبقى لغيرهم ؟

ما أجمل أن تعود بنا الأيام إلى شهر رمضان الذي كنا ننتظره بفارغ الصبر ، حيث الطاعة والعبادة ، وصلة الرحم ولقاء الأهل ، حيث صلاة التراويح وقيام الليل والابتهالات وتزيين الشوارع ، حيث التكافل غير المشروط ، والأنشطة الرمضانية القيمة ، ما أجمل أن تعود لهذا الشهر المبارك هيبته وروحانيته المعهودة .


مصعب عماد المبيض ✍️ 


تعليقات

المشاركات الشائعة