يا نافذة الطائرة ! ✈️



في رحلة اللاعودة، وبعد فترة وجيزة قضاها بين أهله في وطنه، يستعد مرغماً لفصلٍ جديد من فصول غربته ..
السيارة تتحرك به بعيداً عن منزله،
وما أن وصل أرض المعبر، وكأنها القيامة !
يتجمهر عددٌ كبير من المسافرين وذويهم على أمل أن يظفروا بفرصة للسفر ، ومرت ساعات طوال من الانتظار ،
فجأة يحين دوره، وكأنها مرارة لا بد منها، ودع أهله ، واستودعهم الله ؛ ليرحل بجسده ويترك روحه معهم مرة أخرى، السيارة تأخذه بعيداً عن وطنه ..
تستمر الأحداث، ويبدأ معركة باصات الترحيل، والطريق الطويلة، وبعد رحلةٍ شاقةٍ من السفر في باص الترحيل،
وصل المطار ، متهالكاً بالكاد يحمل نفسه، والآن حان موعد ركوب الطائرة …

طاقم الطائرة يعطي تعليماته للمسافرين، ومع اكتمال الاستعدادات، الطائرة على وشك الإقلاع، جلس بجانب النافذة على الجانب الأيمن من مقاعد الطائرة، وهو بلا أدنى شك المكان الذهبي الأمثل لكل مسافر؛ حتى يشاهد ابتعاد الطائرة عن الأرض، وما يتبعها من مناظر رائعة،
تناول قطعة لُبان صغيرة ؛ كإجراء روتيني إحترازي، وبدأ بترديد أدعية السفر، وتجهز في مكانه المثالي بجانب نافذته.

قبطان الطائرة يعطي الإشارة لبدء الرحلة،
والطائرة بدأت تتحرك، تنهيدة تبعتها ابتسامة خفيفة،
ومع نظرات متتالية إلى النافذة، الطائرة بدأت ترتفع عن الأرض، والمباني بدأت تصغر شيئاً فشيئاً،
والغيوم بدأت تغطي الجانب العمراني من العاصمة، ا
لطائرة تعلو أكثر فأكثر، والغيوم تتراكم وتغطي المشهد أكثر و تُخفي ملامح المدينة، والشمس قبل غروبها تعلو السماء ؛
وكأنها ملكة تربعت على عرشها من السحاب !

وضع سماعة الهاتف في أذنه، وتمايل على نافذته المفضلة، وبدأ يحدق في تلك الشمس، يرهقه النظر ؛
فيريح عينيه قليلاً، عقله يسرق منه المشهد،
والأفكار تأخذه هنا وهناك، وتسرح به إلى أحداث مضت، وأمور لم تحدث بعد، ومع كثرة التفكير، تناول كوب ماءٍ، وشرب بسم الله، وإذا به يغفو، وكأنه طفل صغير أتعبه اللعب طوال النهار، وبدأت الأحلام تأخذه إلى عالمٍ آخر.
لم تطُل غفوته، استيقظ مستغرباً،
ماذا حصل ؟ أين أنا ؟ ألم أكن بين أهلي ؟ كيف وصلت هنا ؟ وبدأ يستذكر مكوثه لفترة بسيطة بين أهله،
وكأنه حلم وانتهى، بل كأنها غفوة،
يتماسك نفسه ويجمع قواه، ويعود مجدداً إلى نافذته.

يُؤتَى بالقهوة المُرّة ، وكأنها في توقيتها المثالي ..
الشمس بدأت تدنو ، وأشعتها تخِفُّ حدتها شيئاً فشيئاً ،
تستعد للهروب كما اعتادت في مشهدٍ يتكرر يومياً ،
أو كما كنا نظن في صغرنا فهي على وشك أن تغرق هناك حيث الأفق في البحر ..!
بدأ يرتشف قهوته ولكل رشفة مذاقها ،
وإن شئت فقل لكل رشفة حكايتها !
مستعداً للحدث المثير بعد قليل ” غروب الشمس ”
السماء تتغير ألوانها ، وأخذت تمتزج بتدرج مبهر ، في لوحة فنية فريدة تأسر القلوب والأبصار ، إيذاناً بقدوم الليل في مشهدٍ عظيم ، ولأنه صنع الله الذي أتقن كل شيء تذَكّر قوله تعالى :
” يُولِجُ الليلَ فِي النّهَارِ، وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الليل ”
كان هذا المشهد كفيلاً بأن ينتزع من بين شفتيه ابتسامة !
وأن يُخرج هاتفه ليأخذ صورة تذكارية ،
وأن يصُفّ الحروف في الكلمات
ليصف هذا الجمال منقطع النظير ..
ينتهي مشهد الغروب ، لتغرق الدنيا في ظلام دامس ،
ثم تعود التخيلات لتعصف به مرة أخرى ! 

لا مجال للهرب هذه المرة ؛ فأخذ مستسلماً يرتب أفكاره، ويسرح في مخيلته، وبدأ يذكر مكوثه مع أهله،
تذكر كل صباح أشرقت فيه الشمس في قلبه،
وتذكر كل موقف جمعه بأحبته،
كل لقمة تناولها من يدي أمه،
وكل خطوة خطاها بجانب والده،
كل ليلة قضاها مع أخيه،
وكل ابتسامة شاركها مع أخته،
تذكر مشهد اللقاء الأول ؛ وكأنه كان ولادته من جديد،
وتذكر المرة الأولى التي رأى فيها أخته الصغرى، والتي حُرم منها منذ ولادتها، تذكر كل دمعة ذرفها عندما احتضنها، وكيف أن القلب قد التم شتاته، والروح عادت لتدب فيه من جديد، تذكر تراب الشارع الذي يقطن فيه،
وشوارع مدينته، وكل مكان قام بزيارته،
تذكر رفيقه وكل حدث جمعه به، وكيف أنهما كانا يستذكران طفولتهما، وكيف أن الدنيا كانت ترقص فرحاً عندما يكون بجانبه، وتذكر أشياء أخرى صغيرة وكبيرة،
ولا يزال يراقب بهدوء من نافذته الصغيرة.

فجأة !
يقتحم المشهد صوت قبطان الطائرة معلناً قرب انتهاء الرحلة، وأن الطائرة على وشك الهبوط ؛
فأخذته ابتسامة لطيفة، انعكست على زجاج نافذته المفضلة، وتجهز للهبوط، وودع نافذته بكل عفويةٍ ؛
فقد كانت رفيقه في رحلته،
معلناً عودته إلى اللاعودة مجدداً،
إلى نقطة الصفر، إلى غربته مرة أخرى.

مصعب عماد المبيض ✍️




تعليقات

إرسال تعليق

أسعدني مرورك ..

المشاركات الشائعة